jeudi 19 mai 2011

صناعة الآلهة

تمر سوريا في أزمة منذ شهرين وأكثر يُدفع ثمنها دماء غالية من الشعب السوري من جيش وأمن ومتظاهرين سلميين  في أطراف متفرقة من الوطن.
 بين المتظاهرين والأمن يوجد الشعب المزهول بالصدمة التاريخية، الناجمة من حالة الرفض الناطق، وأخص بهذه الصدمة الشباب المتعايش مع حالة الخوف والمتأقلم معها إلى حد اعتبارها جزء لا يتجزء من طبيعته الوطنية، فهذا الشباب مثلاً لم يشهد أحداث الأخوان وإنما سمع بها لكنه عاش حياته في هذا الشبح مردداً شعارات بالمدارس لا يدرك معناها مثل (التصدي للامبريالية والرجعية والصهيونية وعصابة الإخوان عميلا) وحالة اللاتغيير السياسي وليس الاستقرار التي تربى عليها وخوفه المطلق من التحدث بالمحظورات (القائد، والنظام، والسياسة) سببا حالة من الثابت في المجتمع السوري الذي أدى بالتالي إلى فقدان روح العمل الجماعي والفكر الجماعي والانخراط بالمنجزات الفردية وتحليل استغلال المناصب والعلاقات الشخصية وتفضيلها على مصلحة الوطن، وانساق تحت حتميات دمرت الشباب على كافة الأصعدة وأهمها الصعيد الفكري والقانوني، فشب  على مخلّفات الحقبة الفكرية والسياسية التي كانت سارية المفعول حتى السبعينيات، وما آلت إليه الأمور من تدهور في القضاء والتعليم وإلغاء الآخر و جعل الحزب الأوحد القائد للدولة والمجتمع وعلى فكرة صناعة الآلهة، دون العلم أن ما يعيشون في ظله لا يمت بأي صلة لروح العصر ولا يرقى إلى مستوى الدولة.
كيف صنعت هذه الأنظمة هذه الآلهة التي سيظل لها موريدون وأتباع حتى بعد فنائها ودخولها مقبرة التاريخ، كيف وجد إنسان برتبة إله وكيف صار كل ما ينطقه حقا وما ينطقه غيره (حتى لو كان نفس الكلام) كفرا.
في ظل هذه الأنظمة القمعية لا يمكن لجيل الآباء إلا الابتعاد عن السياسة والفكر والانخراط في الهموم اليومية والامنتاع حتى عن تنبيه الأبناء بعيوب النظام السائد مما فسح المجال أمام الأنظمة الناشئة لصناعة دين جديد يقوم على مبدأ الرئيس الإله الأوحد الذي لا يخطئ وإن أخطأ فهو على صواب. صناعة هكذا دين لا يمكن أن يتم إلا عن طريق التعليم في كافة مراحله ومنع الفكر والتفكير بأي فكر آخر كالفكر الشيوعي أو الليبرالي أو ما شاكل، وتجهيل المجتمع بشكل منهجي على كافة الأصعدة لكي يستطيع الحزب الاستمرار في السلطة، ولا تظهر آثار هكذا أعمال إلا في الأجيال الجديدة التي لم تعاصر نشوء السلطة وبالتالي لم تشهد مرحلة ما قبل وما بعد النشوء، ومن هنا نشأ جيلنا جيل الطلائع وشبيبة البعث، وشب على فكرة القائد الخالد وأقوال الرئيس التي تعامل على أنها أعظم أو بمستوى الآيات القرآنية أو الإنجيلية، ولم يتح له الاطلاع على باقي الأفكار أو حتى الاختيار بينها، وزرع فينا عقدة الخوف حسب نظرية القرود والموز(1) ، نخاف المخابرات مع أنها لم تتعرض لنا من قبل بل سمعنا مجرد السماع عن انجازاتها في انطاق الحمار وجعله يطير، وزاد على ذلك فكرة عدم احترام القوانين التي أصبحت من المسلمات في الحياة اليومية للشعب السوري (لا بل أقيمت مؤسسات كاملة على هذه الفكرة ومن بينها مؤسسة أو شركة شرطة المرور)، وورثنا الموروث الأعظم للأمة ألا وهو المؤامرة الدائمة ونهج التخوين، وهو ما يشبه تماما التكفير في الأديان، فكل من يشذ ولو لفظيا عن الأفكار التي تحشى في المدارس والصحف والتلفزيونات التابعة للنظام يخوَّن ويصبح عميلاً صهيونياً أو امبريالياً أو على أقل تقدير أخوان ملسمين (حتى لو كان مسيحيا)، وصار الشاب منا بعثيا (بمفهومه الديني أي أن البعث هو الكتاب المقدس والقائد هو الإله) بالفطرة أو بالوراثة كما يعتبر أنه مسلم أو مسيحي لأنه ولد مسيحيا أو مسلما دون أن يناقش أو يستفسر أو يقرر أن يكون هكذا، وحرمنا من حق المواطنة و جردنا تماما من فكرة المواطنة، فجاءت الصدمة وولد الصراع.
الصدمة تكمن بقدرة هز وضعضعة موروثك الثقافي أو شتم آلهتك، لا بل بالدعوة إلى إسقاط الآلهة، هنا ذهل القسم الأوفر من الشباب السوري، من الأجيال التي تربت على تقبيل يد الخالق والهتف والشكر له، ونشأ الصراع بين الشاب والشاب نفسه على قدرة استيعاب أن حفنة من الشعب السوري قادرة على خرق حاجز الصمت والصرخ بأعلى الصوت بإسقاط النظام، فما كان منه إلا أن يقيس على نفسه، وخرج  بنظرية أنه من المستحيل أن يكون أحد سوري ويطالب بمثل هذه المطالب فنادى بأعلى الصوت أن من ينطق بمثل هذه الجمل ليس بسوري وعاد إلى كتاب القومية الذي حفظه على مدى 22 سنة وردد منه منجزات الأبد الخالد وضاف عليه من كتاب حياته ممانعة الابن الراشد واعاد اكتشاف نظرية التخوين والمؤامرة العالمية على الشعوب العربية.
 ومثل هكذا صراع وهكذا صدمة ينشأ عندما يقول لك قائل على غير ميعاد أن الله محض أساطير، والديانات كانت دساتير المجتمعات لكي يتم ضبطها ونحن الآن لم نعد بحاجة إليها لأننا صنعنا قوانين أفضل منها فلم يعد لها ضرورة للوجود. هكذا أسئلة تولد دائما عند أي شخص لم يطرح على نفسه سؤال الوجود صراع لكي يبرهن أنه على حق وهو غالبا ما يكون على باطل لأنه يفتقد للطريقة الديكارتيه(2) في الإجابة أي التجرد من الأفكار المسبقة وطرح الموضوع وإثباته بحيادية، لأنه يكون متبني لطرف ما قبل طرحه بالإضافة لفقدانه لقدرة النقض الذاتي أو الموضوعي لموروثه.
 ومكمن الصراع هو بين الإبقاء على الوضع الراهن وبين التغيير. ومفهوم التغيير صعب جدا على مجتمع حرم احترام القانون وغيبت الدولة  فيه وألغي حق المواطنة وغلب عليه قانون الغاب لأربعة عقود ونيف من الزمن. وانضمام الشباب لا إراديا إلى معسكر التخوين والمؤامرة الكبرى وإلى تصديق قناوات ما كان يعرّجع عليها مطلقا، لا بل تقديسها وتصديق كذبها حتى بعد أن يعترف النظام أن ما صرحت به تلك هذه القنوات كذبا(3) يبدو مبرراً، لكن الميل إلى أن يصبح الشباب ما أدعوه سلفياً سلطوياً أو سلفياً بعثياً، أي أن يصبح من أنصار تحليل الدم وقتل الآخرين لمجرد أنهم يرفعون شعارات غير التي اعتاد سماعها، وافتقاده للحس الإنساني الذي يحرم قتل الروح لمجرد اختلافها بالرأي أو تخوينها لأنها نطقت بغير لسانه، غير مبرر أبداً.
 فالصراع الفكري الحالي على هذه القواعد بين شباب يعقلون ويفكرون بأنهم بحاجة للتغيير والكف عن الثوابت التي بالت، وبين الشباب الذين تشربوا صناعة الآلهة على مدى 48 سنة الفائتة، هو الصراع الحقيقي في سوريا، فلو كان كل الشباب السوري مدركون ضرورة التغيير لما صمد النظام مطلقاً. وعلى الشباب السوري، جلينا من الشباب، أن يعي أنه جُّهِلَ قصداً ولقن قصراً على مدى العقود الماضية أفكار بالية لم يعد لها وجود وصارت تحمل عنوان ما قبل الحضارة وأن التاريخ لن يبقى ثابتاً وأن المجتمعات تتغيير وصفة التغيير هي إيجابية بحد ذاتها، وليس كل من ينطق بغير لسانه هو خائن أو عميل، وما من أحد يمتلك شهادات الوطنية والبطولة ويوزعها على الشعب السوري، وأن الاختلاف أساس التكامل، وما من حل أمامه سوى أن يعيد ترتيب أفكاره من جديد، يرمي ما بال منها ويرمم ما يمكن ترميمه ويضع الجديد منها بما يخدم الوطن، ويؤسس لدولة مدنية تتبنى حق المواطنة، فالأجيال القادمة لن تكون إلا حرة وملحدة بالإله القائد.

 (1)http://ar.wikipedia.org/wiki/ نظرية القرود الخمسة
(2)كتاب مقالة الطريقة لديكارت 
(3) فيديو البيضة: قوات من الأمن أو الشبيحة تدعس على متظاهرين وتضربهم وتشتمهم

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire